التصوف
مفهومه ونشأته ومراحله وتطوره
ذ.محمدأوفاري
مدينة أكادير
مقدمة:
لقد بدأ الصراع بين الخير والشر منذ بدأت الإنسانية، وأقسم إبليس ليغوين عباد الله المخلصين منهم (فبعزتك لأغوينهم أجمعين).
وإن من الوسائل التي يستعين بها إبليس لإغواء عباد الله تعالى، ما ركز فيهم من الغرائز والشهوات والنزاعات والأهواء، وإن هذه الغرائز والشهوات لو تركت من غير تهذيب وتوجيه لفسد المجتمع وانهار بنيانه.
وإذا كانت القوانين تعمل على الحد من الغرائز، فإنها تقوم بذلك عن طريق الرهبة التي لا يتأتى أن تستمر دون انقطاع، إذ أنه بمجرد أن تتاح الفرصة لانطلاق الغرائز في خفية عن القوانين، فإنها تنطلق فاسدة مفسدة، وبمجرد أن تتمكن الغرائز من هدم القانون فإنها تنطلق طاغية مدمرة.
وإن دور الأديان والشرائع السماوية: هو السمو بالنزاعات الإنسانية والغرائز الجبلية نحو الربانية، والرقي بها في مدارج العبودية الحقة.
ولقد قيض الله لهذا الأمر علماء عارفين، وزهادا ورعين، سمت نفوسهم وارتقت هممهم في معارج السالكين إلى منازل السائرين، فنوروا القلوب بما حباهم الله به من العلم، وبما خصهم به من نور الحكمة، وبما اصطفاهم واجتباهم بين عباده من الفهم الرشيد،فعكفوا على تهذيب النفوس وتسديد السلوك، يبذلون النصيحة، وينيرون الدروب،غير مبالين بما يعترض طريقتهم من عقبات أو آلام، يعملون من غير صخب أو ظهور إنهم الصوفية.[1]
أولا :مفهوم التصوف ودلالته:
يعد التصوف أحد التيارات الفكرية التي جعلت سلوك الإنسان مناط الاهتمام بغية العروج به إلى مدارج الكمال، والخروج به من دائرة المادية إلى الروحانية وتزكية النفس.[2]
ويأتي هذا الموضوع ليميط اللثام عن نشأة التصوف وتاريخه وتطوره، والكشف عن أهم أعلامه، وبيان رموزهم ومصطلحاتهم، وأشهر طرقه في العالم الإسلامي.
وقبل أن نبحث في التصوف ونشأته وتاريخه، نريد أن نذكر أصل اشتقاقه واختلاف الباحثين فيه والصوفية أنفسهم أيضا.
لقد سئل الشبلي: لم سميت الصوفية بهذا الاسم؟
فقال: هذا الاسم الذي أطلق عليهم اختلف في أصله وفي مصدر اشتقاقه.ولا زالوا مختلفين فيه حتى اليوم، فلقد نقل الطوسي أبو نصر السراج في كتابه الذي يعد أقدم مرجع صوفي، عن صوفي أنه قال: (كان في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك، فقيل: صوفي) وبمثل ذلك نقل عن أبي الحسن الكناد: هو مأخوذ من الصفاء.
وينقل الكلاباذي أبو بكر محمد الصوفي المشهور عن الصوفية أقوالا عديدة في أصل هذه الكلمة واشتقاقها، فقال:
قالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء آثارها.
وقال بشر بن الحارث: الصوفي من صفت لله معاملتهم فصفت له من الله عز وجل كرامته.[3]
وقال قوم: إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم عليه، ووقوفهم بسائرهم بين يديه.
وقال قوم: إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال قوم: إنما سمو صوفية لِلَبسهم الصوف.[4]
وقد أورد العلامة ابن حمدون في حاشيته، أن معنى الصفاء هو المختار حيث قال: (... وقيل من الصفاء هو المختار كما لطائف المنن نقلا عن المرسي) ثم أورد أبياتا لأبي الفتح البستي بشأن الأختلاف في معنى الصوفي، حيث قال في حاشيته، قال أبو الفتح البستي:
تخالف الناس في الصوفي واختلفوا ** فيه فظنوه مشتقا من الصوف
ولست أمنح هذا الاسم غير فتى ** صفا فصوفي حتى سمي الصوفي
وأنسد في المدخل:
ليس التصوف لبس الصوف ترقعه **ولا يكاؤك إذ غنى المغنونـــا
ولا صياح ولا رقص ولا طــرب ** ولا نغاش كأن قد صرت مجنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كـــــــــــدر** وتتبع الحق والقرآن والدينـــا
وأن ترى خاشعا لله مكتئـبا **على ذنوبك طول الدهر محزونا
وقيل مشتق من الصوف، لأنه زي أهله غالبا، آثروه تواضعا وتقللا من الدنيا، واتباعا للسلف، ولأنهم يرون أنفسهم كصوفة ملقاة في الأرض والرياح تحركها، فلا يشاهدون الأفعال من أنفسهم، وإنما يشاهدونا من ربهم، أو من صوفة القفا لِلِينها، فالصوفي هين لين.[5]
أما الجنيد رحمه الله فعرفه بقوله : (التصوف تصفية القلوب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانية الدواعي النفسية ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع قوله صلى الله عليه وسلم في الشريعة).
قال عبد الله بن الصديق: ولعل هذا التعريف، من أشمل وأوفى ما عرف به التصوف لأنه تضمن الأسس العامة التي بني عليها، ولا عجب فهو صادر عن الجنيد، إمام الطائفة ورئيس الطريقة التي عرفت به، وإليه تنسب.
ثانيا :أسباب الاختلاف حول مفهوم التصوف ومعناه:
لما كانت الطرق لبلوغ التصوف كثيرة ومتعددة، فأي طريق سلك بك هذه الغاية وتحققت معه ثمرة العبادة والمجاهدة، قيل فيه تصوف.
ولما كانت هذه الطرق لا تنحصر، قال بعضهم: إن الطرق إلى الله على عدد أنفاس بني آدم. اختلفت أنظار الصوفية أنفسهم في تعريف التصوف وحقيقته، فعرف كل واحد منهم الطريق التي رأى أنها أقرب في الوصول إلى الله تعالى، وقد أوصل أبو نعيم في الحلية ما قيل في التصوف إلى ألف قول وتعريف، وأعقب كل ترجمة في كتابه بتعريف يناسب حال المترجم له وسلوكه، قائلا عقب كل ترجمة: وقد قيل: التصوف كذا وكذا مما ينطبق على أحوال صاحبها.[6]
وهذا الاختلاف في الواقع ليس اختلاف تضاد يوجب سقوطها من الاعتبار، وإنما اختلاف في حال، ودليل على شمول التصوف لكل ما قيل فيه، فهو إلى تعدد الأسماء أقرب، ودليل على شرفه، وأنه من السعة والشمول بحيث لا يحصره حد، ولا يجمعه تعريف، وهذا هو سر نسبة الصوفية إلى شعارهم الظاهر، وهو لبس الصوف، دون نسبتهم إلى ما اختصوا به من الكلام عن الأحوال والمقامات والمجاهدات، وكان الأولى أن ينسبوا إليها، كما نسب الفقهاء إلى ما اختصوا به من الأحكام، والمحدثون إلى الحديث، والمؤرخون إلى التاريخ، والأدباء إلى الأدب، وهكذا...
وفي هذا المعنى يقول أبو نصر الطوسي: فإن سأل سائل فقال: وقد نسب أصحاب الحديث إلى الحديث، والفقهاء إلى الفقه، فلما قلت الصوفية ولم تنسبهم إلى حال ولا علم ولم تضف إليهم حالا كما أضفت الزهد إلى الزهاد، والتوكل إلى المتوكلين، والصبر إلى الصابرين، فقال له: لأن الصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون علم، ولم يترسموا برسم من الأحوال والمقامات دون رسم، وذلك لأنهم معدن جميع العلوم، ومحل جميع الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة سالفا ومستأنفا، وهم مع الله في الانتقال من حال إلى حال مستجلين بالزيادة، فلما كانوا في الحقيقة كذلك لم يكونوا مستحقين اسما دون اسم، فلأجل ذلك ما أضفت إليهم حالا دون حال، ولا أضفتهم إلى علم دون علم، لأني لو أضفت إليهم في وقت حالا، هو ما وجدت الأغلب عليه من الأحوال والأخلاق والأعمال، وسميتهم بذلك، لكان يلزم أن أسميهم في كل وقت باسم آخر، وكنت أضيف إليهم في كل وقت حالا دون حال، حسبما يكون الأغلب عليهم، فلما لم يكن ذلك، نسبهم إلى ظاهر اللبسة وكان ذلك مجملا عاما.[7]
قال الشيخ أبو حفص الفاسي ظهر لي أنه منسوب إلى الصوف لأنه في الغالب شعاره ودثاره، لأن هذا اللفظ مشتمل على ثلاثة أحرف متقطعة في ثلاث كلمات دالة على معان ثلاثة هي أوصافه المختصة به، فالصاد من الصفاء، والواو من الوفاء، والفاء من الفناء، وقد أشرت إلى ذلك في ثلاثة أبيات، فقلت:
صفا منهل الصوف عن علل الهوى** فما شاب ذاك الورد من نفسه حظ
ووفى بعهد الحب إذا لم يكن لــه ** إلى غير من يهوى التفات ولا لحظ
محت آية الإظلام شمس نهاره** وقد ذهبت منه الإشارة واللفــــــــــــظ
ثالثا :نشأة التصوف:
يظهر مما سيق من تعريف التصوف ومضمونه أنه من صميم الدين وأنه غير دخيل كما يدعي بعضهم، بل هو مشمولات حديث جبريل عليه السلام الشهير الذي تضمن علوم الدين الثلاثة، وهي التوحيد والفقه والتصوف الذي هو شرح لمعنى الإحسان كما جاء في حديث جبريل الذي رواه مسلم في صحيحه، فسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا من الإيمان الذي هو موضوع العقائد ،والإسلام الذي هو موضوع الفقه والعبادات، والإحسان الذي هو موضوع التصوف دينا.
وحينما أخذ المسلمون يشتغلون بالتأليف والتدوين انشغلت طائفة منهم ببيان أركان الإيمان والعقيدة، وأطلق عليهم علماء التوحيد والكلام، واشتغلت طائفة أخرى ببيان أركان الإسلام وقواعده، فسموا الفقهاء، بينما انشغلت أقوام ببيان مقام الإحسان والطرق الموصلة إليه، فلقبوا بالصوفية، وهكذا يكون التصوف في أصله من صميم الدين وعلومه.[8]
وإذا نظرنا فيما كان يركن إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العزلة والخلوة والتأمل في الكون ووازنا بين هذه الحال وأحوال الزهاد والعباد الذين ظهروا في ما بعد وعرفوا باسم الصوفية تبين لنا في يسر وجلاء وجه الشبه بين حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة الصوفية، فحياة الصوفية هي اهتداء بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن نرجع طريقة هؤلاء القوم وما تشتمل عليه من رياضات ومجاهدات، ومن أذواق ومواجيد، وما تنتهي إليه من كشف للحقائق ومعرفة الدقائق إلى مصدرها الأول وهي الحياة الروحية الخاصة التي كان يحيها رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تجرد فيها من كل شيء، فانكشف له فيها وجه الحق في كل شيء.[9]
قال سيدي محمد بن الصديق في جواب له عن أول من أسس طريق التصوف: "وأما من أول من أسس الطريق وهل كان تأسيسها بوحي؟
فاعلم أن الطريقة أسسها الوحي في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما بينها واحدا واحدا دينا، وقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، فغاية ما تدعوا إليه الطريقة ويشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان.[10]
فلقد كان محمدا قبل البعثة وقبل الوحي يذهب إلى غار حراء بعيدا عن صخب الحياة العربية الجاهلية، وبعيدا عن ضجيج الحياة المادية ، وألوان الترف والنعيم فيها، ولم تكن حياته في هذا الغار نبيا ولا رسولا ولا مسلما، بل كان يتعبد هناك كما كان يتعبد بعض الجاهلين من المتحنفين الذين كانوا يعبدون الله على ملة ابراهيم حنيفا من أمثال: قس بن ساعدة الإيادي وأمية بن أبي الصلت الثقفي وخالد بن سنان العبسي وزيد بن عمرو بن نفيل الذي ذكرت عنه أسماء بنت أبي بكر أنها رأته في مكة مسندا ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: "يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري". فكان يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم، وقد اعتزل الأوتان وفارق الأديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين الحنيفية، دين إبراهيم يوحد الله ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه، فأذاهم بالفراق لما هم فيه.
وكانت حياة محمد هذه قبل البعثة وبعدها قد تميزت بالتحنث والخلوة والاكتفاء بالقليل من الزاد والإكثار من المجاهدات والرياضات، وهي حياة تمثل الصورة الأولى المشرقة للحياة التي كان يحياها الزهاد والعباد والصوفية فيما بعد، وهي حياة تتسم بالأذواق والمواجيد والمقامات والأحوال والكشف والاشراق والشطحات، وهي وقف على الصوفية دون غيرهم وهي سبيلهم إلى كشف الحقيقة وطريقهم إلى الله، وسبيلهم الوحيد لمعرفته معرفة إلهامية تأتي القلب مباشرة، وهي معرفة لدنية (وعلمناه من لدنا علما) وهو العلم الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج. وأساس هذه المعرفة الخاصة بالصوفية هو اصطفاء الله لهم، وهو أيضا المحبة المتبادلة بين العبد والرب، ولا شك في أن الصوفية هم المصطفون الأخيار.[11]
ولم يكن التصوف معروفا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا في عهد التابعين رحمهم الله، وإن كانت حقيقته معروفة، إذ كانت حقيقته تعني الإخلاص وحسن الظن باله تعالى وحسن التوكل عليه والانشغال به عما سواه.
وفي القرن الأول لم يكن يعرف اسم التصوف، بل كان اهله يعرفون باسم الزهاد والنساك والكائين، وليس باسم الصوفي، وكان اعتقادهم صافيا وإيمانهم نقيا خالصا، وما كان ابتعادهم عن الدنيا إلا لارتياعهم من عذاب الآخرة وخوفهم من خالقهم، فهرعوا إلى الكهوف والمغاور ورؤوس الجبال، حيث الوحدة الصافية والإنعزال عن صخب الحياة المادية.[12]
وقد كان الصحابة بالحالة التي بلغتنا عنهم تواترا من المسارعة إلى الامتثال لأمر الله كانوا بالضرورة أول داخل فيها (أي في طريقة الصوفية) وعامل بمقتضاها، وذائق بأسرارها وثمراتها، ولهذا كانوا على غاية ما يكون من الزهد في الدنيا والمجاهدة لأنفسهم، ومحبة الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، والصبر والرضا والتسليم، وغير ذلك من الأخلاق التي يحبها الله ورسوله، وتوصل إلى قربهما، وهي المعبر عنها بالتصوف والطريقة.
لقد كانت حياة الصحابة حياة الخوف والرجاء، حياة التهجد والبكاء، استمعوا إلى القرآن خاشعين متصدعين، وكانوا مزيجا من السادة والعبيد، ومن الأغنياء والفقراء، ولكنهم كان يجمعهم هدف واحد ومظهر نفسي واحد، هو قراءة القرآن بحزن وخوف، بل كان الصحابة هم رهبان الليل فرسان النهار، يدرسون القرآن بتأمل وتفكر وتدبر بالليل، ولكنهم لم يكونوا كرهبان النصارى فليس من سنة الإسلام تعذيب النفس وإهمال الأسرة وعدم السعي، خلاصة القول إذن أن الحياة الروحية في عهد الصحابة كانت تتسم بالزهد المعتدل القائم على الكتاب والسنة لقد كان الصحابة أنفسهم، نماذج صادقة في الحياة الروحية التي كان يحياها زهاد المسلمين وصوفية الإسلام السنيين.[13]
وكما كانوا رضي الله عنهم على هذه الحالة كان أتباعهم عليها وإن كانوا دونهم، وكذلك أتباع الأتباع وهلم جرا... إلى أن ظهرت البدع وتأخرت الأعمال، وتنافس الناس في الدنيا فتأخرت بذلك أنوار القلوب، وكادت الحقائق تنقلب، وكان ابتداء ذلك في أواخر المائة من الهجرة ولم يزل ذلك يزيد ويشتد سنة بعد أخرى إلى أن وصل إلى حالة تخوف منها السلف الصالح على الدين فانتدب عند ذلك العلماء لحفظ الدين فقامت طائفة منهم بحفظ مقتم الإسلام، وضبط فروعه وقواعده، وقامت أخرى بحفظ مقام الإيمان وضبط أصوله وقواعده، وقامت أخرى بحفظ مقام الإحسان وضبط أعماله وأحواله.[14]
تم بعد مضي عصر الصحابة والتابعين، وفي أواخر القرن الثاني بدأ لفظ الصوفية يظهر، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (164هـ- 241هـ) وأبو سليمان الداراني المتوفى سنة 215هـ، وقيل أن أول من بنى دويرة للصوفية هو بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد المتوفى بعد الخمسين ومائة للهجرة، وهو من أصحاب الحسن البصري، وكان ذلك في البصرة، وأن أول من عرف باسم صوفي في المجتمع الإسلامي هو أبو هاشمالصوفي المتوفى فبل منتصف القرن الثاني الهجري، ويقول عمر رضا كحالة: ورد لفظ الصوفي لقبا مفردا في النصف الثاني للهجرة إذ نعت به جابر بن حيان الكوفي، وأما صيغة الجمع (الصوفية) فإنها ظهرت في ما انتهى إليه عمر رضا كحالة عام 199هـ.[15]
قال ابن خلدون في المقدمة: علم التصوف من العلوم الشرعية الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لا تزال عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة... إلى أن قال: وكان ذلك عامة في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة إذن فالذي حدث هو الإسم، وتمييز المقبلين على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة، أما النهج والطريقة فهي نفس ما كان عليه الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلى أن قال: فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام في الأذواق والمواجيد التي تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاما ويترقى منها إلى غيرها[16].
ومن كل ما سبق، ندرك أن التصوف نشأ أول ما نشأ عبادة وزهدا وإقبالا على الله وأن ما يدعوا إليه كان هو طريقة السلف الصالح عامة من الصحابة والتابعين، وإن لم يعرفوا به ويختص بلقبه، إذ كان الشأن في كل مسلم في تلك العصور أن يكون متحليا به متحققا بمقامه.
فلما لم يعرف الصحابة بالفقهاء والمحدثين والمفسرين، مع أنهم كانوا في الواقع فقهاء وأصحاب حديث ومفسرين ولغويين، فكذلك لم يعرفوا بالصوفية، وإنما عرفوا بالصحابة، لأن شرف الصحبة التي خصوا بها لا يعادله شيء في الفضل.
[1]الإمام عبد الحليم محمود: شيخ الشيوخ أبو مدين الغوث، حياته ومعراجه إلى الله، دار المعارف (بتصرف).
[2]الأستادعبدالله علاوي، التصوف من إشكالية الفهم إلى تية الممارسة: مجلة المخبر أبحاث في اللغة والأدب الجزائري، جامعة محمد خيضر الجزائر.
[3]إحسان الهي ظهير: التصوف المنشأ والمصدر، الطبعة الأولى، الناشر: إدارة ترجمان السنة.
[4]المصدر السابق.
[5]حاشية العلامة أبي عبد الله محمد الطالب ابن العلامة حمدون بن الحاج على شرح العلامة محمد بن أحمد الفاسي الشهير بميارة على منظومته ابن عاشر ج 2 ص 178. شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
[6]محمد علي بن الصديق : اطلالة على التصوف المغربي وتاريخه، مجلة دعوة الحق العدد 280 محرم الحرام.صفر الخير 1411ه/ غشت _ شتنبر 1990م.
[7]محمد علي بن الصديق : إطلالة على التصوف المغربي وتاريخه، مجلة دعوة الحق ع:280.
[8]محمد علي بن الصديق : إطلالة على التصوف المغربي وتاريخه، مجلة دعوة الحق ع:280. مصدر سابق.
[9]منال عبد المنعم جاد الله، أستاذ مساعد بمعهد الدراسات البحر المتوسط، كلية الآداب جامعة الإسكندرية: التصوف في مصر والمغرب.
[10]إطلالة على التصوف المغربي وتاريخه، مجلة دعوة الحق ع:280.
[11]د. محمد جلال شرف، أستاذ الفلسفة الإسلامية، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية دراسات في التصوف الإسلامي، شخصيات ومذاهب.
[12]د. بدر عبد الحميد هميسة: نظرات في التصوف.
[13]د. محمد جلال شرف، دراسات في لتصوف الإسلامي. مصدر سابق.
[14]محمد علي بن الصديق: إطلالة على التصوف المغربي وتاريخه، مجلة دعوة الحق ع: 280.
[15]د. بدر عبد الحميد هميسة: نظرات في التصوف.
[16]مقدمة ابن خلدون.